بعد التطورات السياسية المتسارعة فى غزة والمنطقة، يمثل البيان المشترك الأخير، الصادر عن مصر والولايات المتحدة وتركيا وقطر، بشأن الأوضاع فى غزة تحولًا جوهريًا فى ديناميكيات الوساطة الدولية، حيث يعكس هذا التحالف الرباعى غير التقليدى محاولة لخلق كتلة حرجة قادرة على ممارسة ضغوط حقيقية على إسرائيل، لبدء تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاقية السلام التى تم توقيعها فى شرم الشيخ.
هذا البيان يشمل ثقلًا إقليميًا ودوليًا أوسع يجمع بين الوساطة الميدانية «مصر وقطر» والدعم اللوجستى والسياسى «تركيا» والضمانات الدولية والضغط الاستراتيجى «أمريكا».
البيان فى جوهره ليس مجرد نداء إنسانى، بل هو وثيقة التزام سياسية تسعى لسد الثغرات التى أدت إلى التجاوزات التى تمت فى المرحلة الأولى، وذلك من خلال التركيز على صياغة لغة توافقية توازن بين إسرائيل والمطالب الفلسطينية المشروعة بوقف إطلاق النار الشامل وانسحاب القوات ورفع الحصار، مع إبراز الدور التركى الجديد كعنصر توازن يضفى صبغة إقليمية على الوساطة، ويقلل من حدة الاستقطاب.
وهو ما يشير إلى أن واشنطن باتت تدرك أن الانفراد بالحل لم يعد ممكنًا دون إشراك القوى الإقليمية الفاعلة التى تمتلك قنوات اتصال مباشرة مع كل الأطراف، بما فى ذلك الفصائل الفلسطينية، ما يجعل هذا البيان بمثابة فرصة لمنع انفجار الأوضاع بشكل كلى فى الإقليم.
ومع ذلك فإن التحليل العميق للبيان يكشف عن تحديات جسيمة تكمن فى «شيطان التفاصيل»، خاصة فيما يتعلق بآليات التنفيذ على الأرض، وضمانات عدم العودة للحرب، وملف إعادة الإعمار، وهى ملفات تتطلب ما هو أكثر من مجرد التوافق، بل تستدعى إرادة سياسية صلبة من القوى الأربع لإجبار إسرائيل على وضع حد لما يحدث فى غزة، وهو ما يضع مصداقية هذا التحالف الدولى- الإقليمى على المحك، فى ظل تصاعد لغة التحريض والعمليات العسكرية المستمرة التى تقوم بها إسرائيل، ما يجعل من هذا البيان إما حجر زاوية لاستقرار جديد فى الشرق الأوسط أو مجرد محاولة دبلوماسية أخرى تضاف إلى سجل الإخفاقات الدولية فى حل القضية الفلسطينية.
ويبقى السؤال الأهم حول مدى قدرة أمريكا على تحويل نقاط البيان إلى واقع ملموس ينهى معاناة سكان القطاع، ويضع حدًا لدوامة العنف التى تهدد السلم والأمن الدوليين.
وتأتى زيارة بنيامين نتنياهو إلى الولايات المتحدة المرتقبة، ولقاؤه الرئيس دونالد ترامب، ليمثلا نقطة تحول استراتيجية فى مسار كارثة غزة والشرق الأوسط. فعلى خلاف لقاءات جس النبض السابقة، تركز المحادثات الجديدة على وضع اللمسات الأخيرة فيما يتعلق بالمرحلة الثانية من خطة السلام التى عقدت مؤخرًا فى شرم الشيخ، والتى ترعاها واشنطن.
ومن المؤكد أن لقاء نتنياهو وترامب سيناقش آليات تنفيذ وقف إطلاق النار الدائم، مع تركيز ترامب على إنهاء القتال لفتح الباب أمام مرحلة جديدة مع الفلسطينيين.
ولا أستبعد أن يتناول هذا اللقاء مناقشة البرنامج النووى الإيرانى، فى محاولة من نتنياهو لإقناع إدارة ترامب بتبنى سياسة الضغط الأقصى بنسختها الأكثر صرامة على طهران. وتمثل هذه اللقاءات طوق نجاة لنتنياهو أمام ضغوط الداخل الإسرائيلى، حيث يسعى لتصوير نفسه بأنه القادر على انتزاع مكاسب استراتيجية من الحليف الأمريكى القوى.
ورغم الكيمياء الشخصية الظاهرة بينهما فإن التحدى يظل فى التوفيق بين رغبة ترامب فى إغلاق ملف الحرب وبين أهداف اليمين الإسرائيلى المتطرف، ما يجعل نتائج هذه الزيارة اختبارًا حقيقيًا لقدرة الدبلوماسية الشخصية على حسم ملفات ميدانية معقدة.
وفى هذا الشأن تتبنى مصر موقفًا تاريخيًا راسخًا يرتكز على ثلاث ركائز سيادية. وهى: الرفض القاطع لتهجير الفلسطينيين، أو تصفية قضيتهم، والتمسك بإقامة دولة مستقلة على حدود ١٩٦٧. وميدانيًا تظل القاهرة الشريان الأساسى للإغاثة والمحرك الرئيسى للوساطة، مؤكدة أن أمن غزة جزء لا يتجزأ من الأمن القومى المصرى، رافضة أى مساس بالحدود أو السيادة.












0 تعليق