هذه آخر الأرض!
لم يبقَ إلّا الفراق.
سأسوّي هنا لك قبرًا،
وأجعل شاهده مِزقةً من لوائك،
ثم أقول: سلامًا!
لقد تبعتُك من أوّل الحلم،
من أوّل اليأس حتى نهايته،
ووفيتُ الزِّمامَ.
كنتُ أمشي وراء دمي.
آه! هل يخدع الدمُ صاحبَه؟
هل تكون الدماء التي عشقتْكَ حرامًا؟
هل خدعتُ بك
حتى حسبتُكَ صاحبي المنتظر؟
أم خدعتَ بي،
وانتظرتَ الذي وعدتكَ به فلم تنتصر؟
أم خدعْنا معًا بسراب الزمان الجميل؟!
لا أعرف لماذا لم أجد سوى أبيات الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي (بتصرّفٍ منّي) وهو يرثي حلمه، لأصدّر بها مقالي في رثاء حلمي أنا… “البوابة”: غيمةٌ تحمل القلب إلى مساحاتٍ للبصيرة، تبني مدنًا من نورٍ وزجاج، قبل بناء جيلٍ يكره الشر، ويحب الورود والعصافير، ويكتب فوق نهر الحياة بحروفٍ من بنفسجٍ فيرسم خريطةً لوطن الياسمين.
تلك كانت أحلامي عندما بدأتُ مشروع البوابة… حلمًا راودني وأنا أواجه، مع عدد لا يتعدّى أصابع اليد الواحدة، قوى الظلام المرتدية عباءة الدين على مدى ثلث قرن أو يزيد. لم أفقد فيهم بوصلتي يومًا، ولم ينحرف قلمي عن جادة الصواب. كنتُ أرى بعين قلبي وبصيرة عقلٍ يبحث عن وطنٍ مخبوء تحت رماد المحبّة.
ثلث قرنٍ أو يزيد من المعارك المتواصلة، لم يهدأ لي بال، حتى عندما وصلت قوى الظلام إلى قمّة السلطة في مصر، واعتبره البعض—بل الأغلب الأعمّ من مثقفي هذا الوطن—مصيرنا المحتوم، كان اختياري واضحًا منذ الوهلة الأولى: المواجهة، بالقلم، بالصوت، بالصورة، وبالسلاح إذا لزم الأمر.
وعندما حانت اللحظة الحاسمة في 30 يونيو 2013 وما قبلها، كانت الحركة في الشوارع والحارات، وقبلها بكثير كانت في مكتبي أيضًا. لا زلت أذكر جلساتي المطوّلة مع أخي المقدم الشهيد محمد مبروك وأخي العقيد تامر الشهاوي، واجتماعات العجوزة مع الأصدقاء الأعزاء عادل حمودة وتوفيق عكاشة واللواء أحمد رجائي عطية قائد الفرقة 777… ومسيرات التحرير المنطلقة من مقهى ريش بصحبة الصديق المقاتل الفنان محمود قابيل وعدد من قدامى المحاربين يتقدمهم اللواء محمد زكي عكاشة… يوم أن أقسمنا على الله أمام ستين ألف مواطن مصري أننا سنعيد الإخوان ورئيسهم إلى السجون مرة أخرى.
لقاءاتي المطوّلة مع صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد في منزله بأبو ظبي، وكلمات الملك عبد الله—عاهل المملكة العربية السعودية رحمه الله—لي: “خَلِّيك ورا هادول، أوعى تلين ولا تتراجع”. أحاديث طويلة حول الطريق إلى إزالة العدوان… عدوان الإخوان على مقدّرات الوطن: مصر الحضارة والتاريخ والناس.
محاولات تشكيل حزبٍ سياسي يتصدّى للإخوان وقيادتي له كأمين عام بجوار الفقيه الدستوري العظيم إبراهيم درويش في أدقّ لحظات تاريخ مصر السياسي… اقتحام مقرّ البوابة بالأسلحة الآلية بعد فضّ اعتصام رابعة… محاولات اغتيالي المتكررة—المادية والمعنوية—لمنع صوتي من الوصول إلى الناس.
احتفاء جمهور ثورة 30 يونيو بي في انتخابات 2015 ومنحي شرف تمثيلهم في البرلمان بأكبر نسبة أصوات من الجولة الأولى.
تختلط عليَّ الذكريات أحيانًا، وتأتي متدفقة في أحايين أخرى، ولكنني ما زلت أذكر الحلم وامتداده طوال أحد عشر عامًا هي عمر البوابة ومساهمتها في تاريخ مصر السياسي، في أدقّ مراحله.
والآن، وأنا أصل إلى نهاية الطريق مُجبَرًا بعد خسارة كل شيء امتلكتُه تقريبًا، وتخلّي الجميع بلا استثناء عن الحلم، حتى أبنائه… أرانِي أشبهُ "كهلًا".. يسير بجثة صاحبه في ختام السباق، يكرم أيّامهم أن تدوس عليها الخيول.
لم أكن أبدًا من الذين ينسحبون أمام ضراوة وقسوة المعارك، لكن الخذلان صعب، والتنكر للجميل أصعب، وتركُك وحيدًا تقاتل دون سلاح هو المستحيل بعينه، خاصة عندما تكون في مثل عمري؛ فقد بلغت الثالثة والستين، وغزا الشيب رأسي، وبدأت الأمراض تداعب جسدي المنهك… ولا جهد لي لتحمّل طِعان الأحبّة والأبناء.
ربما كنت أتحمّل لو أنني أقاتل عدوًا واضحا أعرفه ويعرفني، ولكن “حتى أنت يا بروتس؟!” لقد مات بعد تلك الصرخة واحدٌ من أعظم ملوك العالم القديم، فما بالك بي؟
ولكن… هل لي قبل أن أغادر أن أقصّ عليكم قصة حلمي؟ ربّما تكون تلك عباراتي الأخيرة لكم، فتتذكّرون… لكي تتعلّموا من تجربتي… لعلّ أحدكم يحمل يومًا شعلة حلمٍ مماثل بعدي، فلا يرتكب أخطائي.
البدايات:
أتذكّر الآن الحكاية/الحلم منذ بداياته في شارع محمود بسيوني بوسط البلد عام 1996، يوم بعتُ شقتي التي تأويني أنا وبناتي الثلاث في المقطم (لم يكن خالد قد وُلد بعد) وسيارة بيجو 305، واشتريتُ كمبيوترًا، وأجّرتُ مكتبًا، ووظّفتُ عددًا من الأصدقاء وبدأتُ مشواري.
يومها قال لي الدكتور رفعت السعيد—رحمه الله—هل تدرك ما أنت مُقدِم عليه؟ إنها مغامرة قد تكلّفك مستقبلك ومستقبل أبنائك. لكنني كنتُ موقنًا بأن الله معي، كما أنا موقنٌ في هذه اللحظة بأن الله لم ولن يتركني لحظة، رغم حجم تلك المعاناة.
ومن محمود بسيوني، مرورًا بشارع شمبليون، وهدى شعراوي، ومصدق… رحلة طويلة، ثلاثون عامًا من البحث عن “حلمي” فكرتي لبناء مؤسسةٍ مدنية بحثية وصحفية تتصدّى بالفكر، وتتسلّح بالوعي والكلمة الحرّة في مواجهة قوى الظلام وسارقي الأوطان ودعاة الفوضى.
لم تهن عزيمتي يومًا، والبعض يصوّب لي السهام من كل صوب وحدب. حتى أقرب الناس إلى أفكاري لم يتركوني أشدّ رحالي نحو حلمي في سلام؛ كانوا يشدّونني للخلف تارة، ويناوشونني لأدخل معهم في معاركهم الوهمية تارة أخرى. لكنني لم أستجب يومًا للردّ على ترّهاتهم، ولم أعبأ بهم. كان هدفي واضحًا منذ البداية: أن أنتصر لوطني، وفكرتي، وحلمي.
وعندما وضعتُ يدي في يد عدد من الأصدقاء المحترمين في دولة الإمارات، وقرّرنا إنشاء المركز العربي للبحوث والدراسات عام 2006—المشروع الذي انبثق عنه عام 2014، مشروع "البوابة"؛ لم أكن أعرف وقتها أنّها ستكون جزءًا من فرحي وألمي وألقي وشجني طوال 11 عامًا.
كانت البوابة، كما أردتُ لها، مفرخةً لجيلٍ جديد من الصحفيين أفخر بأنني قدّمتُهم إلى المهنة والوطن. وتمرّ الأعوام، واحدًا تلو الآخر… خمس سنوات ونحن نكبر ونتحوّل إلى واحدة من أهم وأكبر المؤسسات الصحفية في مصر.
لكن دوام الحال من المحال؛ جاءت جائحة كورونا عام 2019، وانسحب الشركاء والأصدقاء متخفّفين من عبء البوابة.
كنتُ قبلها بعامين قد بدأتُ مشروع مركز دراسات الشرق الأوسط في باريس مع أصدقاء آخرين، وكان خيار شركاء البوابة هو التصفية… واخترتُ، على عكسهم، أن أستمرّ، وأن أعطي كل ما أكسبه من عملي في الخارج—أو قل مكافأتي بالكامل—للبوابة.
لم تكفِ المكافأة الرواتب والمصروفات، على الرغم من تخفيضها بنسبة 35% آنذاك، فبدأت رحلة البيع… تقريبًا بعتُ كل ما امتلكتُه طوال ثلاثين عامًا من العمل والجهد في الخارج والداخل، واضطررتُ مرة أخرى—مجبَرًا—إلى الإقدام على تخفيض آخر في الأجور، ليصل حجم الرواتب إلى 50%. ومع هذا—ويشهد الزملاء—كانت الرواتب آنذاك من أفضل الرواتب على مستوى الصحف الخاصة آنذاك.
وجاء عام 2022، وكانت المفاجأة: انهيار كل شيء. انسحب الشركاء من مركز دراسات الشرق الأوسط بباريس، كما انسحب الآخرون من البوابة من قبل وأصبحتُ وحدي.
وبدأتُ رحلة أخرى من التحدّي. رفضتُ التسليم بأن الأمور قد آلت إلى نهايتها، تمسكتُ بحلمي. وأخطأت خطأ نابليون بونابرت الشهير "لم أعرف أن أتوقف عندما كان يجب عليَّ أن أتوقّف ".
فكلما كنتُ أنظر إلى عيون زملائي في البوابة، يزداد إصراري على البقاء. لم أكن أملك الشجاعة لكي اصارحهم بضرورة التوقف عن الحلم والنظر بعين الواقع الى ما آلت اليه ظروفنا.. كنت اسارع بأرسالهم تباعًا إلى نقابة الصحفيين لكي أضمن لهم مكانًا يستحقّونه في بلاط صاحبة الجلالة.
كانت كل المؤسسات المتعثّرة قد توقفت عن التعيين… إلا البوابة؛ على العكس، كثّفت من التعيينات (60 زميلًا كل عام) في محاولة لمساعدة الجميع في الحصول على عضوية النقابة التي يستحقونها عن جدارة قبل ان تحدث الكارثة التي كنت أراها جيدا.
كان بيني وبين زملائي حاجزُ الخجل. كنت مستعدًا لأن أسير إلى آخر الدرب، لمجرد الخجل من النظر إليهم إذا أنا أغلقتُ أبواب الحلم في وجوههم.
وفي الطريق، قدّم إلينا أصدقاؤنا في “المتحدة” يد المساعدة، ووقفوا معنا في محاولة لإنقاذنا، ولكن الحِمل كان كبيرًا، واللحظة لم تكن مواتية، فتراجعوا بعد عام من مد يد المساعدة.
وعندما حانت لحظة الانفجار، كنتُ على موعدٍ مع نفسي. وقفتُ أمامها أحاكمها: هل أخطأتُ عندما اتخذتُ قرار الاستمرار… في الوقت الذي كان يجب عليّ أن أتوقف؟
وهل ينطبق علي ما قاله الزعيم الفرنسي شارل ديجول واصفًا نابليون بونابرت من أنه: “لم يستطع أن يتوقف عندما كان يجب عليه أن يتوقف”.لذلك جاءت هزيمته دراماتيكية ومفجعة.
لذلك لم أشأ أن أردّ على كل ما أُثير ويُثار، أو أتبادل الجدل العقيم مع أصدقاء وأبناء أكن لهم كل الحب والتقدير. طالما وصلنا إلى مرحلة النهاية، قلت لنفسي: فليكن الوداع صامتًا وجميلًا يليق بجمال الحلم وطيبته.
الآن فقط أستطيع أن أسلّم الراية لجيلٍ مقاتل… جيلٍ عرف طريقه إلى الحق… جيلٍ أفخر بأنني واحدٌ ممن ساهموا في بنائه ولو بلبنة.
ولكن قبل أن أضع خط النهاية لتجربةٍ عشقتها وعشقتني، يجب أن أوضّح عدّة نقاط، وأوجّه الشكر لمن يستحق الشكر:
أولًا: ما أملكه من أسهم البوابة لا يتعدّى 20%، في الوقت الذي كنتُ—وما زلتُ—المموِّل الوحيد لها طوال خمس سنواتٍ مضت؛ الأمر الذي أرهقني وأضاع كل ما تعِبتُ من أجله أربعين عامًا؛ فالاعتذار والشكر واجبين لعائلتي التي قصرت في حقها كثيرا.
ثانيًا: كل الشكر والعرفان بالجميل للشركة المتحدة التي مدّت يد العون، ووقفت معنا في أصعب حالاتنا؛ الصحيح لغويًا:
لمدة عامٍ كاملٍ، ولكنهم—لظروف داخلية لديهم—لم يستطيعوا أن يتحمّلوا ما تحمّلته وما زلتُ طوال سبع سنوات، فاعتذروا عن الاستمرار. فلهم مني كل الشكر والتقدير.
ثالثًا: كل الشكر والتقدير للأصدقاء في الإمارات الذين بدأوا معنا "الحلم"، ولم يشاؤوا—لظروف تخصّهم—أن يستمرّوا وانسحبوا مبكرًا؛ لهم مني كل الحب، فقد دفعوا المشروع إلى الأمام في أوقاتٍ حاسمة، وساهموا معي في خلق جيلٍ جديد قوي ومتماسك وشجاع، وساهموا في نجاح المشروع بنصيب كبير.
رابعًا: تعلّمتُ الامتنان لكل من مدّ يده لمساعدتي على تحقيق حلمي، وتعلّمتُ أن أشكر الله على كل شيء. فله الحمد والشكر على ما وصلنا إليه؛ ربّما له حكمةٌ في ذلك لا أعلمها، ولا يعلمها أحد.
خامسا: لا ألوم أحدًا، وأتحمّل وحدي مسؤولية خطئي عندما اتخذتُ قرار الاستمرار وحيدًا، متحدّيًا كل الظروف التي كانت تدعوني إلى التوقف، مدفوعًا بقوة الحلم وعزيمة الحب وأخلاق الفرسان.
لكنني أقول لكم، وبكل صدق: إنني ما قصّرتُ يومًا، لا في حقكم ولا في حق المؤسسة، وحاولتُ قدر المستطاع—وحيدًا—أن أتحمّل تبعاتها، ولكنني عجزتُ بعد سبع سنوات متتالية، ولم أعُد أحتمل يومًا إضافيًا واحدا.
لذلك سوف أترك الخيار في يد الجمعية العمومية لتتّخذ قرار "التصفية" دون حضوري، لأنني قدّمتُ استقالتي من عضوية مجلس الإدارة منذ فترة طويلة، ولا أطيق أن أشهد هذه اللحظة… لحظة اختناق الحلم.
كلمة أخيرة:
إلى كل أبنائي من صحفيي البوابة… أتمنى لكم مسيرة مبهرة تستحقّونها في بلاط صاحبة الجلالة، وأماكن أفضل تقدّر مجهوداتكم ومهنيّتكم التي لا يختلف عليها أحد، قبل أن تمنحكم ما تستحقّونه من مقابلٍ لجهدكم الذي أشهد الله أنه مخلص وعميق ومتفانٍ.
تحياتي لكم، وأمنياتي بمستقبلٍ باهر.










0 تعليق