إما أن تكون فيلسوفًا أو سياسيًا

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

أن تكون فيلسوفًا يعني أن تكون متبحرًا في علمك، واصلًا إلى مقصدك، عالمًا بما ومَن حولك. لكن، أن تكون سياسيًا فذلك لا يحتاج منك كل ذلك المجهود.

 

(1)

يقولون لكل حاصل على درجة الدكتوراه: إنه حاصلٌ على درجة الفلسفة في علمه، وأنه بات فيلسوفًا في تخصصه. وقد كان الفلاسفة قديمًا عالمين وعارفين بكل شيء، يبحثون في كل جوانب الحياة وما بعد الحياة، يبحثون فيما على الأرض وما فوقها، يبحثون في طبيعتها وما بعد طبيعتها. لذلك استحق المتأمل في كل شيء لقب "فيلسوف"، وباتت الفلسفة وثيقة الصلة بكل المجالات من فلك وموسيقى وطب وكيمياء وسياسة، حتى الميتافيزيقا أو "ما بعد الطبيعة" كان من اختصاص الفلسفة والفلاسفة وحدهم، حتى كان الفيلسوف في القرن الرابع قبل الميلاد مرفوعًا إلى مصاف الحكام، بل إنه وحده من يستحق أن يكون حاكمًا.

(2)

في كتابه الذي صدر عام 2009 بعنوان "First as Tragedy، Then as Farce" ومعناه "في البداية مأساة، وفي النهاية مهزلة"، عبر الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك عن غباء الساسة في طريقة حل الأزمات السياسية. وقد اقتبس عنوان كتابه ذلك من الفيلسوف الألماني كارل ماركس الذي قال فيه: "إن التاريخ يعيد نفسه كمأساة ثم كمهزلة". ويرى جيجك في أطروحته تلك أن "الفلاسفة ليست لديهم أخبار جيدة عن هذا العالم، ودعا المستمعين لهم بأن يؤمنوا بأن المهمة الأولى للفلسفة هي أن تجعلك تُدرك عُمق القرف الذي تعيشه". ومن بعد ذلك الإدراك يمكنك أن تفهم حقيقة ما أنت فيه، فإما أن تعدل من مسارك أو أن تستمر قابعًا في مستنقع "قرفك".

(3)

لقد كتب جيجك هذا الكتاب بعد الأزمة الاقتصادية العالمية التي هزت أركان العالم، وكان يريد أن يوصل رسالة للعالم بأن الأزمة لا تكمن فقط في تكرار المآسي، بل في تكرار التعامل "الغبي" مع تلك المآسي، وهو بالمناسبة ما يجعلها تتكرر دائمًا. لكنه يذهب إلى أن حماقة الساسة وبعدهم عن التفكير النظري والتأمل الفلسفي جعلهم في مكانة أدنى من مكانة المفكرين والفلاسفة سواء من ناحية التفكير أو التنفيذ، من ناحية الفكر أو الممارسة. فتذهب بهم تصرفاتهم لا إلى انحطاطهم وحدهم بل إلى انهيار العالم، ودمار الأرض، إلى انحطاط الأخلاق وضياع المدينة والفضيلة.

(4)

يدرك جيجك جيدًا عمق ما يقوله، كما يدرك سطحية من يمسكون بزمام هذا العالم. يدرك جيدًا الفارق بين "ليفياثان" توماس هوبز وبين عقد لوك الاجتماعي. يدرك جيدًا الفارق بين "أمير" ميكافيللي وبين طوباوية أفلاطون. يدرك جيدًا أرستقراطية الفلسفة ومثاليتها وانحطاط السياسة ودونيتها.

(5)

وعلى الرغم من ذلك لم تنفصل الفلسفة عن السياسة ولم يبتعد الفلاسفة عن السياسيين، حتى بات لكل نظام سياسي فلسفته وفلاسفته. وقد كان من تجليات ذلك أن وصموا نيتشه بـ"فيلسوف النازية"، وقالوا عن أرسطو: إنه أستاذ الإسكندر، وأن توماس هوبز كان المستشار الخاص لأوليفر كرومويل. 

لقد كان ذلك منذ عقود، أما الآن فلم يعد لأي نظام سياسي فلسفته الخاصة؛ إن الحكام يستيقظون يوميًّا للنظر في مجريات العالم ثم يسيرون في فلك تلك الدائرة، يعرفون أين يقبع القوي فيهرعون إليه ويطلبون وده وحمايته.

(6)

لكن على أية حال، يمكن القول إن انحطاط العالم راجعٌ إلى انزواء الفلسفة والفلاسفة عن القيام بدورهم الحقيقي نظرًا وتطبيقًا، فكرًا وعملًا. إذ يرى الفلاسفة أن قربهم من دوائر صنع القرار، خاصة إذا كانت فاسدة، لا يمكنه أن ينتج فكرًا صحيحًا قائمًا على مبادئ الحق والخير والجمال، وهي المبادئ المطلقة التي تبحث فيها الفلسفة وتكون مباحثها الأصلية، وأن البرجماتية هي غاية السياسة حتى لو كان القمع وسيلتها.

لكن الناظر في التاريخ وفي الجغرافيا يدرك جيدًا أن الفلسفة هي من أعانت الشعوب على الخلاص من براثن الجهل، والعودة من الموات. إذ يحكي عن ذلك الفيلسوف الفرنسي أرثر دو غوبينو أن شعوبًا كثيرة بعد الغزو المغولي لجأت إلى الاستيقاظ من غفلتها على دراسة الفلسفة أولًا في حلقات استعادة العلوم مرة أخرى.. فأنتجت فكرًا وعملًا من جديد.

(7)

لكن في كل الأحوال ومع الاختلاف البنيوي في فكر السياسي والفيلسوف، ومع تعالي الفيلسوف على مهاترات السياسي، لم يسلم الفلاسفة من قمع السلطان في كثير من الأزمان. تمامًا كما حدث مع سقراط حين أعدموه بالسم لأنه كان يعلم الشباب الفضيلة ويكشف زيف السياسيين من السوفسطائيين، وكما حدث مع ابن رشد حين نفوه وأحرقوا كتبه بإيعاز من الخليفة يعقوب المنصور، وكما حدث مع رفاعة الطهطاوي حين نفاه عباس حلمي الأول إلى السودان بحجة توليه نظارة مدرسة ابتدائية هناك، لتظل الفلسفة والفلاسفة منزوين في أركان ومتعالين في أبراج عاجية يرون مآسي العالم تتكرر حتى تتحول إلى مهازل معتادة كما يقول ماركس وجيجك.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق