دعا رئيس الوزراء اللبناني نواف سلام، الأشقاء العرب إلى الضغط على المجتمع الدولي لإلزام إسرائيل بالانسحاب الكامل من أراضي لبنان ووقف اعتداءاتها المتكررة وإطلاق سراح الاسرى اللبنانيين.
جاء ذلك في كلمة رئيس الوزراء اللبناني اليوم أمام مجلس جامعة الدول العربية على مستوى المندوبين الدائمين بحضور أحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية.
وقال نواف سلام: "لقد شهد العالم على التزام لبنان بوقف الأعمال العدائية، لكنّ الخروقات الإسرائيلية ما زالت مستمرة، واحتلال أجزاء من أرضنا قائم، وملف الأسرى والمفقودين لم يُقفل بعد، وندعو أشقاءنا العرب إلى الضغط على المجتمع الدولي لإلزام إسرائيل بالانسحاب الكامل من أراضينا ووقف اعتداءاتها المتكررة وإطلاق سراح أسرانا".
وأضاف: "أنه في ظل التحديات المتسارعة التي تشهدها منطقتنا العربية، يقف لبنان اليوم على أتمّ العزم في مواجهة واقعه بثباتٍ ومسؤولية، ولقد افتتح لبنان صفحةً جديدة في تاريخه بانتهاج سياسة واضحة تقوم على الإصلاح والسيادة معًا: إصلاحٌ في مؤسساته وإدارته واقتصاده، وسيادةٌ كاملة على أرضه وقراره".
وتابع قائلا: "إن الدولة اللبنانية تعمل اليوم على الالتزام الحقيقي باتفاق الطائف الذي يشكل أساس دستورنا وعلى تنفيذ قرار مجلس الأمن 1701 تنفيذًا كاملًا، انطلاقًا من إيمانها بالشرعية الدولية وتمسّكها باستعادة سيادتها وبسط سلطتها على كامل أراضيها، وحرصها على استعادة الحياة إلى القرى الجنوبية وإعادة الإعمار".
وأوضح أن لبنان يعتمد سياسة خارجية قائمة على عدم التدخّل في شؤون الدول الأخرى، كما يرفض أي تدخل خارجي في شؤونه وهو يسعى إلى بناء شراكاتٍ استراتيجيةٍ متينة مع أشقائه العرب، إيمانًا بأنّ أمنهم واستقرارهم من أمنه واستقراره..معربا عن تقديره لتضامن الدول العربية مع لبنان في ظروفه الصعبة، ودعمها له في مواجهة الأزمات المتتالية فرغم حجم التحديات الداخلية يبقى لبنان، كما كان دومًا، منفتحًا على محيطه، ثابتًا في عروبته.
واستطرد: "يشرفني أن أقف اليوم بينكم في القاهرة، وفي رحاب جامعةٍ هي من أقدم المنظمات الإقليمية في عالمنا المعاصر، بل من أعرقها تجربةً في تحويل الروابط التاريخية والحضارية إلى مؤسساتٍ وسياسات. ليست الجامعة مجرّد مبنى أو أمانة عامة؛ إنّها ذاكرةٌ مؤسسية لإرادةٍ عربيةٍ لا تنقطع، وإطارٌ حيّ لوجدانٍ جمعيٍّ صنعه تاريخ الإنسان العربي في محنه، كما في نجاحاته. ومن يملك الذاكرة، يملك القدرة على رسم المستقبل".
وأضاف: "لقد سبقت الجامعة العربية التجربة الأوروبية والإفريقية والآسيوية، وأثبتت أن العرب امتلكوا منذ منتصف القرن الماضي رؤيةً متقدمة لفكرة التكامل الإقليمي قبل أن تتحول إلى نظرية سياسية واقتصادية في العالم. ومن القاهرة، القلب النابض للعالم العربي، نستعيد اليوم الإيمان العميق بأنّ العروبة ليست ماضيًا يُستذكر، بل انها لا تزال مشروعًا للمستقبل".
وأشار إلى أنه حين أُعلنت جامعة الدول العربية في القاهرة عام 1945، كانت الفكرة تتقدّم على التاريخ، لأنّ العرب، يومها، استشعروا باكرًا أن وحدة المصير لا تُصان إلا بإطارٍ يجمعهم، وأنّ المستقبل لا يُبنى على العواطف، بل على المؤسسات، وكانت الجامعة العربية أول تجربةٍ إقليميةٍ في العالم الحديث، سبقت الأمم المتحدة بشهور، وسبقت الاتحاد الأوروبي بعقود، لتقول إنّ العروبة، في جوهرها، ليست انتماءً لغويًا أو وجدانيًا فحسب، بل مشروع تعاونٍ وعمل بين دولٍ ذات تاريخٍ مشترك ومصيرٍ واحد.
وأردف: "لقد حمل الآباء المؤسسون من مصر ولبنان والسعودية وسوريا والعراق واليمن فكرةً متقدّمة لزمانهم أن تكون الجامعة بيتًا للعرب في زمن انقسام العالم، ومظلّةً تحفظ مصالحهم في عالمٍ لم يكن يعرف بعد معنى المنظمات الإقليمية، ومن هنا كان الدور العربي رائدًا لا تابعًا، مؤسسًا لا ملحقًا، لأنّ العرب، قبل غيرهم، فهموا أنّ السياسة الدولية لا تُدار فقط بالتحالفات العسكرية، بل بالمؤسسات التي تُحوّل العمل المشترك الى فعل قوّة".
و لفت إلى أنه مع مرور العقود، تغيّر العالم من حولنا وتراجعت الأيديولوجيات، وتقدّمت المصالح، وتحوّل المشهد الدولي إلى شبكةٍ من المنظمات الإقليمية التي باتت تلعب دورًا محوريًا في حفظ الأمن، وتنظيم الاقتصاد، وإدارة الأزمات العابرة للحدود. من الاتحاد الأوروبي إلى الاتحاد الإفريقي، من الآسيان إلى الميركوسور، أصبح الإقليم هو الوحدة الفاعلة في النظام الدولي، وأصبحت المجموعات هي التي تملك النفوذ، لا الدول المنفردة مهما بلغ حجمها.
وأوضح أنه في هذا السياق، تقع جامعة الدول العربية في قلب معادلةٍ جديدة ولم تعُد فقط مرجعًا رمزيًا للعروبة، بل هي مطالبة اليوم أكثر من أي يوم مضى بأن تتحوّل إلى أداةٍ استراتيجية لحماية المصالح الجماعية، وإطارٍ لتفعيل القدرات المشتركة في الأمن والتنمية والمعرفة.
وشدد على أن المنظمات الإقليمية الحديثة لم تنشأ لتحلّ محلّ الدول، بل لتقوّيها، وتمنحها عمقًا سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، وتجعلها أكثر قدرة على التفاعل مع التحوّلات العالمية.
وقال "تتجلّى أهمية المنظمات الإقليمية والدولية في القرن الحادي والعشرين فهي ليست فقط أدواتٍ للتنسيق بين الدول، بل تجارب تعيد صياغة فكرة السيادة ذاتها، فالسيادة اليوم لا تُقاس بالاستقلال عن العالم، بل بالقدرة على المشاركة الفاعلة فيه بهذا المعنى، يمكن القول إنّ الجامعة العربية هي التعبير المؤسسي عن السيادة العربية في زمنٍ كونيٍّ متداخل".
وأضاف "إذا كانت الأمم المتحدة تجسّد الشرعية الدولية بمفهومها القانوني، فإنّ الجامعة العربية تجسّد الشرعية الإقليمية بمفهومها الوجداني كما السياسي. الاثنتان معًا - أي الشرعيّتان الدولية والإقليمية - تشكّلان ركني النظام العالمي القائم على التعاون والتوازن، ومن هنا فإنّ دور الجامعة لا يمكن أن يقتصر على إدارة العلاقات العربية-العربية، بل عليه ان يمتدّ إلى المساهمة في رسم توازنات العالم الجديد، من موقعٍ مستقلٍّ ومسؤولٍ، يؤمن بأنّ العرب لا يسكنون التاريخ فحسب، بل بإمكانهم ان يشاركوا في صناعته".
وقال إن منطقتنا تمرّ بلحظةٍ فارقة من تاريخها الحديث فقد شهدنا خلال العامين الماضيين تصعيدًا مجنونًا في فلسطين، واهتزازاتٍ أمنيةٍ في الخليج والبحر الأحمر، ودورات من العنف وأزماتٍ سياسية واقتصاديةً وبيئيةً واجتماعيةً خانقة في مشرق وطننا العربي كما في مغربه، ناهيكم عن الحرب في لبنان.
وأضاف أن كل هذه التحديات كشفت إنّ الحاجة اليوم هي إلى إعادة بناء مفهوم الأمن القومي العربي على أسسٍ حديثة: أمنٌ لا يُختزل في البعد العسكري وحده، مهما كانت أهميته، بل يشمل البعد الاقتصادي والتعليمي والتكنولوجي والاجتماعي.
وأشار إلى أن الأمن العسكري ركنٌ أساسيّ من أركان الأمن القومي، لكنه يبقى شرطًا غير كافٍ ما لم يُدعَم بالأمن الاقتصادي والاجتماعي والمعرفي، لأنّ البنادق لا تحمي وطنًا جائعًا ولا مجتمعًا منقسمًا على ذاته، ولا دولةً عاجزةً عن إنتاج المعرفة..موضحا أنه في قلب هذه التحديات تبقى فلسطين، القضية التي تختصر في ظلمها معنى الغياب العربي، وفي صمودها معنى الأمل العربي.
وحذر من إسرائيل زادت من فائض قوتها، وسعت إلى توظيفه في تكريس واقعٍ جديد على الأرض، ولكن في المقابل، تغيّر الرأي العام العالمي نفسه، فقد بدأ الضمير الإنساني يعي عمق المأساة الفلسطينية، وصار مطلب العدالة لأهل فلسطين يُعبَّر عنه في الشوارع والجامعات ووسائل الإعلام الكبرى في شتى انحاء العالم.
وقال "ومن هنا تكمن المفارقة التي يجب أن نحسن قراءتها فكلّما ازداد فائض القوة في الميدان، ازدادت الحاجة إلى فائض الشرعية في القانون والرأي العام، وأنه من هنا رهاننا اليوم هو على إنهاء الاحتلال، ووقف الاستيطان، وحماية المدنيين، ودعم مسار الاعتراف بدولة فلسطين وفق قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية التي تبنّيناها في قمة بيروت عام 2002، وإعلان نيويورك لحل الدولتين الذي رعته كل من المملكة العربية السعودية وفرنسا".
وأكد رفض لبنان لأي محاولة لتهجير الفلسطينيين أو توطينهم في بلدٍ آخر رفضًا قاطعًا، مشددا على ضرورة الاستمرار في دعم وكالة الأونروا لتتمكن من أداء دورها الإنساني تجاه الأشقاء الفلسطينيين، فضلًا ان دعمها هو دعمٌ للاستقرار في الدول المضيفة أيضًا.
وطالب برؤيةٌ عربية متكاملة لأمنُ الممرات البحرية، وتكامل سلاسل الإمداد، وتطوير القدرات السيبرانية، وصون البنية الرقمية التي باتت خط الدفاع الأول عن أمن الدول.
وقال إن الأمن العربي يمتدّ من الممرات البحرية إلى أحواض الأنهار، من مياه النيل إلى البحر الأحمر، ومن القرن الإفريقي إلى المتوسط، لأنّ أمن المياه والطاقة والغذاء هو وجهٌ آخر لسيادتنا، مضيفا أن من القضايا التي ينبغي أن تُدرَج في صميم التفكير العربي المشترك هي قضية الأمن المائي، لا كملفٍّ تقني، بل كجزءٍ من الأمن القومي بأبعاده الاستراتيجية.
واشار إلى أن المياه في منطقتنا هي شريانُ الحياة، ومصدرُ استقرارٍ اقتصاديٍّ واجتماعيٍّ في آن. ولأن الأنهار الكبرى، وعلى رأسها نهر النيل، تشكّل عصبًا وجوديًا لدولٍ عربيةٍ أساسية، فإنّ أي اختلالٍ في توازنات توزيعها أو إدارتها العادلة يتحوّل سريعًا إلى مسألة أمنٍ قوميٍّ شامل.
وقال إنه لا بدّ أن تتحوّل الدبلوماسية المائية إلى أحد أركان الأمن العربي، قائمةٍ على التعاون الإقليمي، واحترام الحقوق التاريخية، وتبنّي مقاربة المصالح المشتركة بدلًا من الصراع على الموارد، فحماية النهر، في نهاية المطاف، هي حمايةٌ للحياة، مؤكدا أن لبنان يقف اليوم على أتمّ العزم في مواجهة واقعه بثباتٍ ومسؤولية.
وأضاف أن المطلوب من العالم العربي اليوم ليس الانكفاء ولا التنافس، بل بناء شراكاتٍ واقعية قائمة على المصالح الاستراتيجية المشتركة، المطلوب أن ننطلق مما هو قائم - من الاتفاقات، والهيئات، والمؤسسات العربية المشتركة - وأن نُعيد تنشيطها وربطها بمشروعاتٍ اقتصادية وتعليمية وتكنولوجية عابرة للحدود فالتكامل الاقتصادي العربي ليس شعارًا، بل خطة بقاءٍ جماعيٍّ في زمن التحوّلات الكبرى.










0 تعليق