قدم الأنبا ديفيد أسقف نيويورك ونيو إنجلاند وثيقة موقف متكاملة تجمع بين الإيمان والواقعية السياسية، وترسم حدود الخطاب القبطي الوطني المتزن، الذي يرفض الظلم دون أن يساق إلى الفتنة، ويؤمن أن العدالة والسلام طريق واحد لا طريقان.
في خضم الأحداث الأخيرة بقرية نزلة الجلف – المنيا، جاءت كلمة الأنبا ديفيد لتفتح مساحات جديدة من التأمل والتحليل، إذ حملت رسائل دقيقة المضمون، وتضع ملامح موقف الكنيسة المصرية في لحظة حرجة تمر بها البلاد.
تحدث الأنبا ديفيد بلغة دبلوماسية متزنة، تجنّب فيها أي عبارات يمكن أن تُفهم كصدام، لكنه في الوقت نفسه قدّم اعترافًا غير مباشر بوجود أزمة حقيقية تستحق المعالجة حيث أقر الظلم الضمني، ولم يتعامل مع ما حدث باعتباره "سوء تفاهم" أو "إشاعة"، كما حاول البعض الترويج، بل أقر ضمنيًا أن هناك تجاوزًا وقع ضد أقباط القرية، تعليقًا على طلب البعض التظاهر أمام السفارات المصريه، بل إختار أن يطرح الإيمان والصبر كوسيلة للرد، لا المواجهة أو التصعيد، وهي لغة دينية راسخة وسليمة تعبّر عن المدرسة الروحية العميقة للكنيسة القبطية، "وفي رأيي، هذا هو الموقف الأصح، لأن وطنيّة الأقباط المتجذّرة لا يمكن أن تُختزل في أجندات عبثية أو أصوات هامشية مثل كأنس وطارق حبيب."
ووفق نيافته في عرض الموازنة بين الحقيقة والسياسة، فمن الواضح أنه سعى إلى الموقع الآمن في المنطقة الرمادية؛ رافضًا الجلسات العرفية من ناحية، ومستخدمًا لغة حكيمة متوازنة من ناحية أخرى، لتجنّب بها الصدام مع الدولة.
وأكد على ضرورة التركيز على الأهداف المشتركة التي توحّد المصريين، وكأنه يحذر من الأصوات النشاز التي تسعى لإشعال الفتنة بين الأقباط والقيادة، وحتي لا نعطيهم الغرض من مخططاتهم، وبذلك إستخدم لغة كنسية سياسية راقية، تهدف إلى امتصاص الغضب بالطرق الصحيحة، لا بإنكاره أو تجاهله، داعيًا إلى الثقة في الله وفي المسئولين لإصلاح الموقف.
ولقد حصر نيافته الظلم كاختبار إيماني، في عباراته المتكررة عن "الثقة في عدالة الله" و"الصلاة من أجل العدل"، أكد الأنبا ديفيد أن ما يحدث هو اختبار للإيمان الحقيقي، ودعا لاستخدام القضاء كحق عادل.
فالكنيسة القبطية، تاريخيًا، تتعامل مع الظلم بالصبر والهدوء، لا بالمواجهة العلنية، تجنبًا لإحداث خلخلة في توقيت حساس تمر به البلاد، وبلور الرسالة الأعمق بين السطور كانت واضحة:
"لن نسمح كأقباط وطنيين أن يُستغل الظلم سياسيًا ضد مصر."
وأرسي الثقة الكاملة في أن الحل سيأتي من داخل الدولة، لا من الخارج، فى تعبير عن الخط الوطني الثابت للكنيسة المصرية منذ أجيال، لتفادي الانقسام بين الداخل والمهجر.
وأما عن البعد الكنسي الداخلي، أري أن نيافته أرسل رسالة طمأنة للرأي العام القبطي في الداخل والخارج بأن الكنيسة ليست صامتة كما يُروّج البعض، بل تتابع الأزمة عبر قنوات رسمية كنسية، لا من خلال الشارع أو المظاهرات، مؤكدًا أن الكنيسة المصرية جزء أصيل من الدولة، وليست كيانًا منفصلًا عنها، ما يقطع الطريق على أي جهة خارجية قد تحاول تسييس الحوادث الطائفية أو استغلالها للضغط على الدولة، كما شدّد على أن التصعيد غير المدروس يمكن أن يُفهم طائفيًا، لا كحق عادل، وهو ما يجعل الضبط والهدوء والحكمة أسمى من الانفعال أو الغضب.
وإختتم الأنبا ديفيد كلمته برسالة جوهرية تلخص فلسفة الكنيسة في مواجهة الأزمات، إن "الانفعال لا يصنع عدالة، بل الحكمة والتواصل الهادئ هو الطريق الصحيح"، علي الرغم أنه شدد على أن اليأس أو خطاب الكراهية لا يخدم العدالة، وأن الحل الحقيقي هو إعطاء فرصة للحوار والعدالة داخل إطار الدولة، "أظنّ وأراهنُ أن القضاء المصريّ الفيصل، كضميرٍ أعلى يُحكَم فوق الجميع، هو السبيل الوحيد، مع ضرورة التوصل إلى حل سياسي يمنع تكرار ما حدث في سيدة الكرم. مع التأكيد على أن ما حدث يتم متابعته، وأن القضية لم تُغلق عند حدود الحادث، وبالفعل دار حوار داخل الغرف المغلقة، ونرجو أن تُترجم نتائجه إلى خطوات ملموسة قريبًا، تفاديًا لأي أخطاء مستقبلية."
وفي رأيي، لا يوجد مصطلح أسمه "تدويل القضية القبطية" لأن كل المصريين جنود في صف الوطن عند اللزوم، وأتمني أن ما حدث لا يتعدي كونها مناورة، لأن الزمن لن يعود إلى الوراء، وهنا أتذكر حديث الرئيس عبدالفتاح السيسى: "ظلم لا نشارك فيه."
وفي ظل نجاحات الدولة الأخيرة مثل قمة شرم الشيخ وافتتاح المتحف المصري الكبير، هناك رسالة ثقة وأمل، "سنظل على العهد ووطنيتنا لا تهتز."











0 تعليق