"المتحف المصرى الكبير".. إعادة إحياء الماضى بذكاء المستقبل

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

 في صباح اليوم، الثاني من نوفمبر 2025، تفتح أبواب المتحف المصري الكبير للعالم بعد رحلة طويلة من الانتظار، والنتيجة كانت مبهرة: مزيج غير مسبوق بين عبقرية القدماء وحداثة المستقبل، بين الحجر والذكاء الاصطناعي، بين الرُوح الفرعونية والبرمجيات الذكية. ما حدث لا يمكن اختزاله في مشهد قصّ الشريط أو إضاءة الواجهة العملاقة؛ بل هو إعلان واضح بأن مصر قررت أن تدير ماضيها بأدوات المستقبل.

التجول داخل المتحف يشبه السفر داخل آلة زمنية تُدار بخوارزميات دقيقة. التكنولوجيا هنا ليست مجرد شاشات تُعرض عليها صور أو مؤثرات تجميلية لجذب الزوار، بل عقل إلكتروني ضخم يُدير التجربة من اللحظة الأولى لدخول الزائر حتى خروجه. كل حركة محسوبة، كل معلومة متصلة بشبكة بيانات، كل قطعة أثرية محاطة بأنظمة مراقبة بيئية دقيقة تحفظ رطوبتها وحرارتها كما لو كانت على موعد مع الأبدية. إنها إدارة علمية للذاكرة، تحافظ على التراث من التآكل والزمن، وتجعله حاضرًا ومتجددًا في آن واحد.

المتحف لا يقدّم آثارًا فحسب، بل سردًا متكاملًا للتاريخ عبر تقنيات الواقع المعزز والخرائط التفاعلية والتطبيقات الذكية التي تتيح لكل زائر أن يختار رحلته الخاصة وفق اهتمامه ومستوى معرفته قد تسير إلى جوار سائح من اليابان يستخدم نظارة الواقع الافتراضي ليشاهد مشهد التحنيط كما جرى قبل آلاف السنين، بينما يقف بجانبه طفل مصري يتعلّم على شاشة تفاعلية كيف كان الفراعنة يقيسون الزمن، إنها تجربة شخصية وإنسانية بامتياز، تجعل من كل زيارة درسًا فريدًا في التاريخ والتكنولوجيا معًا.

لكن الجانب الأكثر إثارة في المتحف ليس ما يُرى بالعين المجردة، بل ما يجري في الكواليس. أنظمة ذكاء اصطناعي تُحلل حركة الزوار لحظيًا لتوزيع الكثافة البشرية وتجنّب الازدحام، وبرمجيات حفظ رقمية تُسجل تاريخ كل قطعة منذ دخولها المتحف وحتى أعمال الترميم المستقبلية، وشبكات اتصالات داخلية تربط كل ركن بنظام مركزي يُدير المكان كأنّه كائن حي ينبض بالمعلومات. إنها بنية تحتية غير مرئية، لكنها ما يجعل هذا الصرح “ذكيًا” بحق.

التكنولوجيا أيضًا أعادت تعريف التمويل الثقافي فبدل أن يكون المتحف مجرد وجهة سياحية تعتمد على بيع التذاكر، أصبح مشروعًا اقتصاديًا معرفيًا قائمًا على ترخيص المحتوى الرقمي، وتوفير جولات افتراضية عالية الجودة، وتطوير برامج تعليمية للمدارس والجامعات في مصر والعالم العربي. إنه نموذج جديد للاستدامة الثقافية، يضمن بقاء المتحف حيًا دون أن يُفرّط في هويته أو يتحوّل إلى سلعة.

ورغم كل هذا البريق الرقمي، لا يمكن تجاهل البعد الأخلاقي لهذه الثورة التكنولوجية. فحين تُدار تجربة الزائر بالبيانات، يجب أن تُحمى خصوصيته تمامًا كما تُحمى القطعة الأثرية من الضوء والرطوبة.

من زاوية أخرى، يُمثّل المتحف المصري الكبير قوة ناعمة جديدة لمصر فالمعارض الدولية، والمنصات الرقمية المفتوحة للبحث والتعليم، والمشاريع المشتركة مع المتاحف والجامعات العالمية، كلها تُعيد تموضع مصر في خريطة الثقافة العالمية ليس كحارس على الماضي فقط، بل كمنتج للمعرفة ومصدر للرؤية الثقافية الحديثة. من يملك القدرة على نشر روايته التاريخية رقميًا، يملك نفوذًا لا يُقاس بالمال بل بالوعي.

لقد نجحت مصر في أن تجعل من الماضي مادة للمستقبل فالمتحف المصري الكبير ليس فقط هدية إلى العالم، بل إلى المصريين أنفسهم، تذكير بأن الحضارة لا تُحفظ في الزجاج بل في الوعي، وأن التكنولوجيا حين تُستخدم بضمير، يمكن أن تكون جسرًا بين الإنسان وتاريخه لا حاجزًا بينهما. 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق