وكيف قبلت أن تُهان السيدة «بلوف» أمامك؟!

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

قرأتُ رواية "كآبة المقاومة" للكاتب "لاسلو كراسنا هوركاي"، ترجمة "الحارث النبهان"، وتوقفت كثيرًا أمام أسلوبها الذي يأخذك إلى عوالم متشابكة من القلق والدهشة، حيث لا يمرّ أي حدث عابر دون أن يترك أثره النفسي العميق في داخلك، وتُعدّ هذه الرواية واحدة من العلامات الفارقة في تاريخ الأدب الأوروبي المعاصر، وفيها ستقرأ جملًا طويلة مكثفة، ببنية سردية مركّبة تجعل القارئ يتنفس داخل النص لا حوله.

وقبل أن تسأل: من يكون "لاسلو كراسنا هوركاي"؟ أقول لك إنه الفائز هذا العام بجائزة نوبل للأدب، وقد مُنح هذه الجائزة لعمله الجذاب، ولأنه يمتلك رؤية فنية وفكرية عميقة تُقدّم تصورات مبتكرة وتأملات تتجاوز المألوف، والتي تؤكد، في خضمّ الرعب المروّع، قوة الفن.

لهذا الكاتب المجري عملان فقط تُرجما إلى العربية: رواية «تانغو الخراب» ورواية «كآبة المقاومة» التي حاز عنها جائزة مان بوكر الدولية عام ٢٠١٥، وله أكثر من اثني عشر عملًا منشورًا بين الرواية والقصة القصيرة، منها "الحرب والحرب" و"الجرس"

يرى كثير من النقاد أنه يسير على النهج السوداوي الذي اشتهر به الكاتب "كافكا"، والكتابة العبثية التي عُرف بها "صمويل بيكيت"، وتظهر في أعماله روح السخرية السوداء والعوالم الغارقة في الخوف واليأس، مع اهتمام واضح بتأثير الرأسمالية على الحياة اليومية الحديثة.

ومنذ الصفحات الأولى في رواية "كآبة المقاومة" يشدّك مشهد تفصيلي يصف السيدة "بلوف"، التي كانت عائدة إلى بيتها بعد زيارة أختيها في بداية الشتاء، وبسبب الفوضى العامة وتعطّل حركة القطارات، اضطرت إلى ركوب قطار الدرجة الثالثة رغم أن تذكرتها للدرجة الأولى، وجلست بين عمّال وفلاحين وبسطاء، وكانت مشمئزة من رائحتهم وطريقة كلامهم ونكاتهم الفظة، وتشعر بانفصال طبقي ونفسي عنهم، وقد غمرها القلق والخوف.

سجّل الكاتب في بداية الرواية حالتها بقوله:

«أرغمها الدفء المريح الناتج عن تشغيل التدفئة عندما انطلق القطار على التجرُّد من معطفها، حتى لا تظل لديها خشية من الإصابة بالرشح عندما تخرج من العربة لتسير في الريح الصقيعية عند وصولها. نسّقت طيَّات الشال الذي وضعته من خلفها، وبسطت دثار الفرو الصناعي على ساقيها، وشبكت أصابعها فوق حقيبة يدها المنتفخة بوشاح رقبتها الذي وضعته فيها، وجلست - بظهرها المنتصب دائمًا - تنظر مجدَّدًا عبر النافذة، فوجدت نفسها وجهًا لوجه، هناك، في الزجاج القذر، مع رجل غير حليقٍ «صامت على نحو غريب»، يعبّ البراندي ذا الرائحة الواخزة من زجاجة في يده. لم تكن الآن مرتدية شيئًا غير قميصها والسترة الصغيرة من فوقه»

وهنا يمكن أن نفهم أنها شعرت بانكشافها، وأن نظراته لم تكن بريئة، بل فجة ووقحة ومربكة، تزيد من شعورها بالتهديد وعدم الأمان.

هذا التفصيل الدقيق في المشهد، مع التركيز على الحالة النفسية للشخصيات، يجعل من "لاسلو كراسنا هوركاي" كاتبًا لا يكتفي بسرد الأحداث، بل يغوص بالقارئ في أعماق المشاعر، محوّلًا النص الأدبي إلى تجربة وجودية بصرية وحسية في آن واحد.

ولكي نفهم مخاوف السيدة "بلوف" على نحو أوضح، نقرأ اللحظة التي بلغ فيها رعبها ذروته: «ثم، ببطءٍ شديدٍ، واثقة من أنها لا تغامر بشيء إن فعلت ذلك، سمحت لعينيها بالانزلاق عبر الزجاج، لكنها انسحبت على الفور بعد اكتشافها أن «المخلوق المعنيّ» كان مصرًّا على مواصلة «وقاحته»، وأن عيونهما قد تلاقت... كانت كتفاها ورقبتها وأعلى ظهرها تؤلمها كلّها بسبب الوضعية المتيبسة لظهرها، لكنها صارت غير قادرة على تحويل عينيها حتى إن أرادت هي ذلك، لأنها أحسَّت بأن نظرته الثابتة المخيفة سوف تغزو كلَّ زاوية من زوايا العربة و«تصطادها» كيفما حوَّلت نظرها بعيدًا عن النافذة المظلمة... "منذ متى ينظر إليَّ؟"... جرح هذا السؤال السيِّدة "بلوف" كأنه سكين؛ وكان احتمال أن عيني الرجل القذرتين كانتا «عليها» منذ بداية الرحلة، قد جعل من تحديقه الذي فهمت معناه بلمح البصر، لحظة التقاء عيونهما، يبدو أكثر إثارة للذعر أكثر من ذي قبل. فبعد كلِّ حساب، كانت هاتان العينان ناطقتين بـ«رغبات قذرة» على نحو يثير الغثيان ـ بل أسوأ من ذلك!-، ارتعدت، وبدا لها كأن نوعًا من الازدراء الجافّ كان مشتعلًا في تلك 

العينين!»

هذا المشهد يكشف أن خوفها لم يكن من مجرد نظرة، بل من شعور وجودي بالتهديد؛ إحساس بأن جسدها وحيّزها الشخصي مهددان، وأن العجز عن الهرب قد يحوّل القلق إلى كارثة.

ويبقى السؤال الآن: ما الذي يريده هذا الرجل منها؟ ولماذا تبدو مخاوفها مبرَّرة إلى هذا الحد؟

الأسبوع القادم بإذن الله أُكمل قراءة رواية "كآبة المقاومة" للكاتب المجري "لاسلو كراسنا هوركاي"

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق