قال الأديب والروائي الكبير محمد سلماوي إن في هذا المساء الذي تتواطأ فيه الذاكرة مع الوفاء، وتنتصر فيه الكلمة على الغياب، نلتقي لنحتفي بقامةٍ أدبيةٍ سامقة، وباسمٍ لم يكن يومًا عابرًا في تاريخ الأدب العربي، بل ظل علامةً مضيئة على دروبه الوعرة: الأديب العربى الكبير علي أحمد باكثير.
وأضاف "سلماوي خلال احتفالية الأديب علي أحمد باكثير التي أقيمت على خشبة المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية، لم يكن باكثير كاتبًا يطرق أبواب الأدب طلبًا للتسلية وإشباع الذات، بل كان أديبا صاحب رسالة، آمن بأن الكلمة قدر، وبأن الإبداع مسئولية أخلاقية وتاريخية، جاء إلى الأدب محمّلًا بثقافةٍ واسعة، وبروحٍ قلقة تبحث عن المعنى، فكتب الشعر والمسرح والرواية، كما كتب النقد الأدبى وأنجز الترجمات المهمة، لا بوصفها أجناسًا منفصلة، بل بوصفها أجنحةً لفكرةٍ واحدة: أن الإنسان العربي قادر على أن يعبّر عن ذاته، وأن يحاور العالم من موقع الندّ لا التابع.
وتابع الأديب الأكبير محمد سلماوي، تميّز باكثير بجرأةٍ فكريةٍ نادرة في زمنه، فكان سبّاقًا إلى تجديد المسرح العربي، مستفيدًا من التراث الإنساني دون أن يفقد جذوره، ومؤمنًا بأن الحداثة الحقة لا تعني القطيعة مع الماضي، بل الحوار الخلاق معه، وفي أعماله التاريخية، لم يكن التاريخ عنده سردًا للوقائع، بل مرآةً للواقع، ووسيلةً لفهم الحاضر واستشراف المستقبل.
لغة باكثير كانت لغةً تعرف كيف تسمو دون تكلّف
وأكد سلماوي أن لغة باكثير كانت لغةً تعرف كيف تسمو دون تكلّف، وكيف تكون عميقة دون غموض، لغةٌ مشغولة بالمعنى بقدر ما هي مشغولة بالموسيقى، تجمع بين فصاحة التراث وحرارة المعاصرة، فتصل إلى القارئ والمشاهد معًا، وتترك أثرها في العقل والوجدان.
ونوه محمد سلماوي، إلى أن علي أحمد باكثير كان شاهدًا على عصرٍ مصيرى فى تاريخ الأمة العربية، فاختار أن يكون ضميرًا لا صدى، وأن ينحاز للإنسان في صراعه مع القهر والظلم، وأن يجعل من الأدب فعل مقاومةٍ نبيلة، لا ضجيجًا عابرًا، ومن هنا جاءت أعماله مشبعةً بالأسئلة الكبرى: أسئلة الحرية، والعدل، والهوية، والمصير.
وقد شكّل الإيمان بالقومية العربية ركيزةً أساسية في فكر علي أحمد باكثير ومساره الإبداعي، لا بوصفها شعارًا سياسيًا عابرًا، بل باعتبارها وعيًا حضاريًا عميقًا ومصيرًا ثقافيًا مشتركًا، فقد عاش باكثير تجربة الانتماء العربي في معناها الواسع، متنقّلًا بين الأقطار، ومتجاوزًا حدود الجغرافيا الضيقة، ليجعل من العروبة هويةً جامعة تتجسّد في اللغة والتاريخ والمصير الواحد، وانعكس هذا الإيمان جليًا في أعماله الأدبية التي استلهمت التاريخ العربي والإسلامي، لا للتغنّي بالماضي، بل لاستنهاض الوعي، وتأكيد قدرة الأمة على النهوض من كبواتها، كانت شخصياته الأدبية تنطق بروح العروبة، وتصارع من أجل الحرية والكرامة والوحدة، وكأن حياته الخاصة وإبداعه الفني قد اندمجا في مشروعٍ واحد، يرى في الأدب أداةً لبناء الوعي القومي، وفي القومية العربية إطارًا إنسانيًا مفتوحًا على العدل والتقدم، لا انغلاقًا ولا تعصّبًا.
ونحن إذ نحيى اليوم ذكراه، فإننا لا نستدعي الماضي من باب الحنين، بل من باب الحاجة، الحاجة إلى نموذجٍ للمثقف الذي يجمع بين الأصالة والانفتاح، وبين الإيمان بقيمة التراث والقدرة على تجديده، وبين الالتزام الفكري والوطنى والجمال الأدبى والفني.
واختتم "سلماوى" كلمته قائلا: رحل علي أحمد باكثير جسدًا، لكنه بقي أثرًا، وبقي درسًا، وبقي شاهدًا على أن الأدب، حين يُكتب بصدق، لا يموت، سلامٌ على روحه، وسلامٌ على كلمته، وسلامٌ على كل مبدعٍ آمن بأن الحرف يمكن أن يكون وطنًا، وبأن الإبداع شكلٌ من أشكال الخلود.

















0 تعليق